لغة الخطاب الشعري عند جميل بثينة - دراسة أسلوبية
الباحث: أ/ فاضل أحمد حسين علي القعود
الدرجة العلمية: ماجستير
تاريخ الإقرار: 2002
نوع الدراسة: رسالة جامعية
المقدمة :-
لما كان الخطاب الأدبي – في جوهره – في جوهره – ليس الألفة فأن المدخل الصحيح إلى كنهه لا يكون إلا من جوهره اللغوي هذا من خلال العكوف على تحليل مكوناته اللغوية المحضة .وإغفال ماعداها من مؤثرات اجتماعية أو تاريخية أو سياسية أو فكرية أو غير ذلك .
هكذا تنظر معظم المناهج النقدية الحديثة الرائجة في زماننا , ومنها الأسلوبية منهجنا المتبع في هذا البحث إلى الخطاب الأدبي منطلقة جميعها في هذا التوجه من مبادئ (دي سو سير )اللغوية التي تعد قر أنالها . من ولاريب أنها بهذا المنحى تكون قد استطاعت التخلص من إسار الذاتية والانطباعية اللتين هيمنتا على النقد الأدبي زمناً طويلاً . فالأسلوبية كمنهج نقدي من مناهج التحليل تتوجة – أساساً – إلى العمل الأدبي معتمدة الأسس الغوية أثناء التحليل , التي تمثل بالنسبة لها الوسلية الأنجع في سبيل اكتناة النص الأدبي وفهمه والكشف عن بنياتة المعتمدة . إنها تنظر إلية نظرة كلية , حيث تعتبره كياناً مستقلاً قائماً بذاته انطلاقاً من حقيقته تتلخص في أن لكل نص أدبي خصوصيته واستقلاله ,ووسائله الخاصة التي تساهم في تكوين بنائه . ومن هنا فإنها – الأسلوبية – تسعى إلى تتبع مافية من قيم جمالية وخصائص أسلوبية بغية الكشف عنها , وبالتالي الوصول من خلالها إلى مقاصد المبدع وغاياته ومن ثم رؤيته الخاصة للعالم حولة . وبهذا المسلك تبتعد الدراسة عن أي أحكام ذاتية أو انطباعية مسبقة , وتصبح حائزة على قدر كبير من الموضوعية والحيادية اللتين هما غايتا كل ناقد حق حصيف .
ولئن كانت هذه غاية البحث الأسلوبي فان موضوع الأسلوبية ينحصر في أسلوب الخطاب الأدبي الذي يتحدد – عند معظم النقاد – في أمرين : أو لهما في (الانزياح ) عن المعيار اللغوي المألوف أي عن لغة الكلام العادي . وثانيهما في (الاختيار) . على أن اعتبار الأسلوب انزياحاً عن المعيار اللغوي ومفرقته يمكن أن يعد شكلاً من أشكال الاختيار ومحصلة له .
وهكذا لما كانت الأسلوبية تسلك هذا النهج في اكتناة النص الأدبي حيث تهدف إلى الكشف عن أدبية من خلال اللغة وغايتها الدراسة الموضوعية فقد أثرت الأخذ بها كمنهج نقدي في تحليل : (لغة الخطاب الشعري عند جميل بثينة ) في سبيل فهم هذا الخطاب وتحديد رؤية الشاعر من خلال الكشف عما في هذه اللغة من قيم جمالية , وخصائص أسلوبية ومزايا تعبيرية .
والحق أن الباحث وهو يحلل لغة الخطاب الشعري الجميلي بهذا المنهج قد مزج بين ثلاثة اتجاهات , التحليل الأسلوبي أثناء ذلك . أولها : يتجلى في (الأسلوبية الوصفية / التعبيرية ) التي تعني بدراسة النص / الخطاب من خلال العلاقة بين الصيغ والأفكار وهي لا تخرج عن نطاق التعبيرات اللغوية , ولا تتعدى وقائعها , ويعتد فيها بالأبنية اللغوية ووظائفها داخل النص . واما ثانيها فيتمثل في (الأسلوبية الفردية / الذاتية ) التي تعنى بدراسة الأسلوب ناظرة إلى مبدعة (منشئه) , بيد أن الباحث أثناء توظيفة أشياء من الأسلوبية الذاتية لم يفرض على النص أموراً مسبقة هي من خارج حدوده بل جعله منطلقه أن الباحث أثناء الأول والأخير حيث عمد إلى قراءته جاعلاً منه وسيلة لتحليل نفسية منشئة ليس أكثر . وأما ثالثها والأخير : فيبرز في (الأسلوبية الإحصائية ) أو ما يسمى بالمنهج الإحصائي في دراسة الأسلوب وهو منهج يعني بدراسة الأسلوب إحصائيا بهدف تحقيق أبعاد موضوعية يمكن بوساطتها تحديد الملامح الأسلوبية للأساليب بعيداً عن الأحكام الانطباعية التي تعوزها الدقة المنهجية يقول د. سعد مصلوح : " ترجع أهمية الإحصاء إلى قدرته على التمييز بين السمات أو الخصائص اللغوية التي يمكن اعتبارها خواص أسلوبية وبين السمات التي ترد في النص عشوائياً " . كما ترجع أهمية في مجال الأسلوبية " بوصفه نموذجياً للدقة العلمية التي لا تترك مجالاً لذاتية الدارس لكي تتعامل مع الخطاب الأدبي " . غير أني قد حرصت على ألا يكون من خلالها إلى دلالاته أكثر .
ومما هو جدير بالملاحظة – وفي إطار الحديث عن المنهج – أن الباحث قد حرص أثناء عملية التحليل – قدر المستطاع – على مراعاة الأطراف الثلاثة المحيطة بهذه الخاصية الأسلوبية أو في : النص , المبدع المتلقي باعتبارها ركائز الأسلوبية وأساسها الأول .
واختيار لغة الخطاب الشعري عند جميل موضوعاً للدراسة يرجع إلى أكثر من باعث : الأول : خصوصية هذه اللغة الشعرية سواء على المستوى الجمالي أم الموضوعي فهي ثرية بالأساليب والخصائص الفنية ثراء ثراكما هي ذات موضوع لائط بالقلوب .
الثاني أن لغة شعر جميل – حسب علمي – لم يُعن بدراستها من قبل فضلاً هم عدم دراستها بأي من المناهج الحديثة التي تركز على الرسالة اللغوية ذاتها وتعزلها عن جميع العناصر الأخرى التي تتصل بها والتي منها الأسلوبية . وما وجدنا من دراسات حول الشاعر لاتمس هذا الجانب .
الثالث : أن الشعر – أصلاً – فن باللغة , وبالتالي فإن قراءته ينبغي أن ترتهن أساسها بهذه القيمة . فهي مادة الشعر وجوهرة , ومفتاح الولوج إلى عوالمه الممتعة الخفية إنها العنصر الذي يمكننا من خلاله التعرف على ذات الشعر والشاعر معاً , لأنها ببساطة لحمة الشعر وسداه . لذا لزم الغوص فيه عبرها لا بشيء سواها .
الرابع : أن جميلاً مبدع هذه اللغة الشعرية يعد – بإجماع النقاد والأدباء القدامى والمحدثين – زعيم مدرسة الغزل العذري تلك المدرسة التي شكلت ظاهرة فريدة في العصر الأموي . الأمر الذي دفع كثيراً من الباحثين في العصر الحديث لدراستها , وتناولها من زوايا متعددة وبمناهج مختلفة : نفسية كدراسة يوسف اليوسف (الغزل العذري دراسة في الحب المقموع ) واجتماعية كدراسة الطاهر لبيب (سوسيولوجيا الغزل العربي : الشعر العذري نموذجاً ) وموضوعاتية كدراسة صادق العظم (في الحب والحب العذري ) . إلا أن عناية هؤلاء الباحثين وغيرهم بـ (لغة هذا الشعر ) وظواهره الفنية والأسلوبية عند شعراء هذا النوع من الغزل بعامة أو عند شاعر واحد منهم – على الأقل بخاصة – حسب علمي – لم تأخذ حظها من الدراسة في ضوء المناهج النقدية الحديثة ذات المنحى الغوي باستثناء دراسات محددة هنا وهناك لاتشكل في شيئاً يذكر إذ لا نكاد نظفر بدراسة
مستقلة في هذا المجال . الذي حفز الباحث لدراسة (لغة الخطاب الشعري عند جميل بثينة ) بالمنهج الأسلوبي , باعتبار جميل واحدا من شعراء هذه المدرسة وزعيمها دون منازع . وهو قد يمكن من الكشف عن القيم الجمالية والتعبيرية لهذه المدرسة عبر لغة شعر زعيمها الاوحد .
الخامس : أن جميلاً ناسج هذه اللغة الشعرية يمت بسبب وثيق إلى مدرسة عبيد الشعر (المحككين ) يقول أبو الفرج الأصفهاني : " جميل شاعر فصيح مقدم جامع للشعر والرواية كان راوية هُدبه بن الخشرم , وكان هُدبه شاعراً راوية للحطيئة , شاعراً راوية لزهير وابنة ".
ولقد قسمت هذه الدراسة إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة .
أما الفصل الأول وعنوانه (البنية الافرادية) فقد خصصته لدراسة تجليات المعجم الشعري في خطاب جميل , حيث تناولته في مبحثين :
الأول منها تجلى في (الحقول الدلالية ) وقد شمل أحد عشر حقلاً دلالياً , هي : (حقل الحب , حقل الألم والعذاب , القلق والضياع , حقل التذكر والنسيان , حقل اللوم العتاب , حقل الضن , والبخل ). عمدت في دراستها إلى إحصاء مفردات كل حقل , ثم انطلقت منها إلى عملية التحليل الدلالي له من خلال الاعتداد بدور السياق في تحديد دلاية هذه المفرادت , ذلك أن " الكلمات كما توجد في المعجم وكما توجد في الطبيعة هي لاشيء إذا لم ننظر إلى علاقتها بالتركيب الذي عينة الشاعر كوحدة تامة مع المعنى الموجود فيه , أو المنبعث عنه كله " فدلالة الكلمة في عينة الشعر مرهونة دائماً بمعطيات التركيب والسياق ومن هنا فقد سعيت إلى محاولة تحليل المكونات الصياغية والبنائية المتشكلة والمتجاذبة مع الدوال الأساسية والفاعلة للحقول الدلالية المختلفة .
واما المبحث الثاني فقد تناولت الدراسة فيه شيئين : أولهما تجلي في ألفاظ متفرقة تمثلت بالألفاظ الدينية وألفاظ الجسم والألفاظ الغربية (الحوشية ).
أما ثانيهما فتمثل في مقياس (و.جونسون ) حيث قمت بقياس تنوع المفردات في أسلوب جميل .
وأما الفصل الثاني وعنوانه (البنية التركيبية ) فلقد جعلته قسمين : في القسم الأول منهما دراست (أساليب تركيب الكلام ) وهو – بدورة – يتجلى في مبحثين : أو لهما (التعبير وتركيب الجملة ) وقد درست فيه الظهور التركيبية البارزة في شعر جميل متجلية في التقديم والتأخير والاعتراض , والحذف , حيث عمدت إلى رصدها فوصفها أولاً ثم تحليلها ثانياً واستنباط النتائج ثالثاً .
ولقد بينت أثناء التخليل طرائق الشاعر في استخدامها , وغاياته ومقتضياته من وراء ذلك .
وأما المبحث الثاني فدرست فيه (الأساليب الإنشائية ) ممثلة في أساليب الإنشاء الطلبي الخمسة وهي : الاستفهام , الأمر النداء النهي , التمني . ولقد عمدت إلى جلاء مظاهرها في خطاب الشاعر وجماليتها فيه ثم تطرقت إلى كيفية استخدام الشاعر إباها وخلصت بعد ذلك كلة إلى بيان الدلالات والمعاني التي رامها الشاعر من ورائها في خطابة .
ومما تأكد لي من شأنها أن الشاعر كثيراً ما يفزع أليها عندما تكتنف ذاته الحيرة والحسرة ويستحوذ علية اليأس أو تصطرع في نفسة الهموم والأشجان على نحو متعاظم .
أما القسم الثاني فقد درست فيه التركيب البياني في إطاره المفرد متجلياً في : التشبيه والاستعارة والكناية من حيث حركة الصياغة الأسلوبية فيها .
وأما الفصل الثالث وعنوانه (البنية الإيقاعية ) فقد درسته في محورين : أولهما تمثل فيما اصطلح علية بـ (الإيقاع الخارجي ) حيث قمت دراسة في هذا النوع من الإيقاع في شعر جميل من خلال وصف البحور التي استخدمتها , خصائص استخدامه أباها وكذا خصائص هذه البحور ذاتها ,ثم تطرفت إلى مسألة استخدامه لها تامة لا مجزوءة , وما استخدم منها مفرداً .
ثم وقفت بعد ذلك على (القوافي ) تاج الإقطاع الشعري , فتناولت أنواعها من حيث التقييد والإطلاق , وحظ الأصوات العربية من الاستعمال روياً , ومظاهر القافية العامة في شعر جميل . ثم توجت ذلك بالحيث عن فن التصريع ومظاهر في مطابع القصائد والمقطعات وثناياها عنده . وأما المحور الثاني فخصصته لدراسة ما اصطلح علية بـ (الإيقاع الداخلي ) حيث تناولت فيه هذا اللون من الإيقاع سواء من جهة اللفظ وما ينتج عن الجمع بين لفظين سيشكان في كل الأصوات أو بعضها كبني : (التزيد ) و(تشابهالاطراف) و (التجنيس ) , أم من جهة الجملة والتراكيب اللغوية الموقعة كبنيتي : (الترصيع) و (التصدير ) . أم من جهة الآمرين معاً متمثلاً في بنية (التكرار الخاص ) .
وقد ختمت البحث بخاتمة اشتملت على خلاصة موجزة وعرض بالنتائج التي توصلت أليها . أما بالنسبة لمصادر البحث ومراجعة فقد تجلت في أهم كتب النقد والبالغة العربية كنقد الشعر لقدامة وكدلائل الأعجاز , أسرار البلاغة للجر جاني , وكتاب الصناعتين للعسكري , وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي , والمثل السائر لابن الأثير وكتاب الطراز لحيى بن حمزة العلوي اليمني , ومنهاج البلغاء لحازم القرطاجني , وغيرها . كما تجلت في الكتب التي عُينت بالأسلوبية منهجاً نقدياً سواء منها العربية أم المترجمة وغير هذه وتلك مما اقتضاه البحث .
أما مصدر البحث الأول فهو مصدر واحد فقط يتمثل في ديوان الشاعر وله طبعات متعددة اعتمدت منها طبعة دار نهضة مصر بتحقيق الدكتور حسين نصار , لأنها من خلال المقارنة بالطبعات الأخرى الأكمل والأوفى والأكثر دقة وتمحيصاً . على أن هذا لا يعني أنني لم أرجع إلى هذه الطبعة أو تلك للاستئناس والتحقق مما قد يلبس .
وبعد , فأن لا يسعني إلا أن أتقدم لأستاذي الجليل الدكتور محمد أحمد النهاري المشرف على الرسالة بالشكر والعرفان لحسن رعايته وتوجيهة لي ولما بذله معي من جهد متابعة مراحل البحث وتقويمه .
كما أسجل شكري الجزيل لأستاذي الفاضل الدكتور عبدالله البار الذي لم يأل جهداً في توجيهي وارشادي .وأخيراً , فما كان من صواب فمن الله وماكان من خطاً فمن عندي أرجو أن أتجاوزه في مستقبل حياتي العلمية إن شاء الله , وحسبي أني قد اجتهدت وبذلت قصارى مالدي من إمكانات وطاقات . والحمد الله رب العالمين.